يتساءل الكثيرون عن مدى الحرية التي يمنحها الإسلام للمبدعين والمفكرين، وهل هذه الحرية مطلقة أم مقيدة بقيود؟، وهذه القيود –إنْ وجدت- من يحددها، ومتى يعرف المبدع أو المفكر أنه قد تجاوز حدود الشريعة؟.
المجال الواسع
أستاذ الفقه المقارن عبد الله أبو عليان استهلَّ حديثه لـ"فلسطين" عن حرية الفكر والإبداع بالقول:" هل سألت نفسك يوماً، ما دام الله خلقنا لعبادته، فلماذا لم يجعلْ الفرائض الواجبة لا تنقطع على مدار اليوم والليلة؟، لماذا نجد الفرائض بعددها وبالوقت الذي تستغرقه قليلة مقارنة بالنوافل؟، ولماذا الفرائض والنوافل بمجموعها لا تُقارَن لقلتها مع المباح والمعفو عنه من حيث المساحة التي يشملها؟".
وأضاف: "لعلَّ من حكم ذلك، أن تكون الفرائض الجبرية التي ليس للإنسان فيها إلا الامتثال قليلة، لتحقق قدراً من التسليم والعبودية في نفس المؤمن، ثم تفتح له المجال الواسع في اختيار ما يناسبه من النوافل، بكونها أكثر إصلاحاً لنفسه، وأجدى نفعاً للناس، وأدوم في الأثر".
وأشار إلى أنَّ ذلك يُبقي الباب مفتوحاً له في المباحات، يتنقل في حقلها كما شاء ما دام طائعاً لله، لم يقصر في حقه، ولا يسرف في تعاطيها، يبدع في شؤون حياته، ويتفنن في تنظيم معاملاته، ويكون حراً في فكره وسيره.
وقال:" إنَّ بعض أهل العلم يقْصر حرية الفكر على الاعتقاد فحسب، ويحارب الداعين إلى هذا المصطلح؛ ظناً منه أن تلك الدعوة تقود إلى الإلحاد والزندقة، ومخالفة قول الله عز وجل: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ""، مشيراً إلى أنَّ ما نؤمن به إيماناً جازماً أن الإسلام هو الدين الحق المرضي عند الله عز وجل، أما الأديان الأخرى فهي إما سماوية تطرق إليها التحريف، أو بشرية يعتريها النقص والتناقض والخلل.
نتائج كسبهم
وأضاف أبو عليان:" الله عز وجل بين لهؤلاء أن اختيارهم لن يكون مقبولاً عنده في الآخرة، أما في الدنيا فليس علينا حسابهم، فالناس لهم إرادتهم، وهم مسؤولون عن نتائج كسبهم، فجعل سبحانه من أهم المبادئ الرافعة للإسلام أنه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، فالدين الذي يعد الأقدس والأغلى والأهم لا إكراه فيه، فهل يكون ما دونه في الأهمية والأولوية فيه إكراه وإجبار؟!، وهل إعطاؤنا له حرية الاختيار ولو أدى إلى اعتناقه غير الإسلام معناه شرعنة اختياره، ومباركة فعله؟!".
ولفت إلى أنَّ غاية المقيد أن يكسر قيده، وعليه فإنَّ الله سبحانه أراح الإنسان من تبعات هذا الجهد عندما خلقه حراً، وبقي أمامه إعمال العقل آلة التفكير، ورفع الحجب عنه؛ لينطلق في الأرض متفكراً في عظيم خلقه، ومتلمساً لطيف الآيات التي خلقها بديع السماوات والأرض.
ولكي تؤدي-وفقاً لأبي عليان- الحرية في التفكر إلى الإبداع المحمود، لا بدَّ من ضوابط منها: جعل التفكير فيما يقود إلى اليقين والاكتشاف، ومحاذرة أن يصل بالإنسان إلى التيه والتشكيك، فليس كل مشي تقدم إلى الأمام فقد يكون انتكاسةً إلى الخلف، وكم من سائر فقد الاتجاه، فكان كلما خطا خطوة ابتعد عن هدفه.
وقال:" فكلمة "فكر" إذا لم ننظمها وفق قواعد وأصول، وننتبه للمتقدم من أحرفها وللمتأخر، فإن تقدم حرف الكاف على الفاء يقلبها إلى "كفر"، فلذلك على المفكر أنْ يكون واقفاً خلف النص لا أمامه، يرى بمنظاره النقي، لا أن يجعله تابعاً لهواه، يراه من منظار فهمه، فالله سبحانه عندما أمرنا بقراءة الكون والأنفس والآيات قال: {اقْرَأْ}، ولم يجعلها مطلقة بل جعلها مقيدة {بِاسْمِ رَبِّكَ}".
وأشار إلى أنَّ التفكير والإبداع والتجديد مرونة، لذلك على المبدع ألا يدخل على مضمون الثابت من عقائد وأخلاق وقواعد، وإنما يدخل على آلية توصيله، وطرق عرضه، وأسلوب طرحه، فهي قابلة للإبداع والتجديد والمواكبة، أما المتغير كالمستجدات في المعاملات والعوائد والأعراف، فإن المرونة تدخله مضموناً وأسلوباً، فقد جاء في الحديث الصحيح: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا».
وقال:" فهل يدخل التجديد على الدين؟ وما هو طبيعة هذا التجديد الذي يقوم بها من العجز إلى القدرة، ومن التخلف إلى النهضة؟، فالحقيقة أنَّ التجديد يدخل على دين الأمة لا على دين الله، يجدد لها دينها، أي فيما يتعلق بعلاقة الأمة بالدين، وطريقة طرحه، لا في جوهره ومضمونه".
ليس مسوغاً
وأردف أبو عليان قائلاً:" ليس كل جديد إبداعا، كما أنَّ كل قديم ليس بكاسد، فشرط الجديد أن يكون نافعاً، وخادماً للواقع، وليس مجرد اختراع لا جدوى منه، أو تنظير عبثي من المحال تحويله إلى سلوك عملي، أو رغبةً في مخالفة المألوف لمجرد المخالفة، فيجب أن يكون ذا رسالة، منبعثاً من الحاجة، فبعد المرور على القديم، وفهم مقاصده، وإدراك معانيه، واكتشاف غوامضه، وسبر نواقصه، يكون الجديد ثمرة ًللقديم، وبناءً على أساسه في ثوب جديد، وترميماً للقديم من غير استبدال، إلا إذا دعت الحاجة إلى تغيير الأساسات كاملة".
وأكد على أنَّ الإبداع يجب أنْ يصدر من أهله الذين يمتلكون نصاب الرشد، ويحيطون بطرف من العلوم والأصول التي يمكن للتجديد أن يقوم عليها، فقد جاء في الحديث:« يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ».
وأشار إلى وجود كثيرين يدعون إلى الانخلاع عن القديم لمجرد قراءتهم كتاباً يدعو إلى التجديد، دون أن يسبق لهم قراءة ما يدعون إلى تغييره، فهم مقلدون لغيرهم في دعوتهم إلى الإبداع والتجديد، مخاطباً المبدع بالقول:" اجعل فكرك الحر يعود إلى المعين الأول النقي في تلقي المعاني، وحاذر أن تكون أسيراً لأقوال الرجال، فطف بها، وتخير منها ما تجده أقرب صهراً بمعين النص".
وأضاف:" لا تدَّعِ امتلاك الجديد المطلق، ولا تحتقر ما عند الآخرين، فوصولك للجديد ليس مسوغاً لتسفيهك القديم، فقديم اليوم جديد زمانه، وجديد اليوم قديم الغد، فهذه سنة كونية ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، ففوق كل حسن أحسن، وفوق كل علم عليم، ولا تتوقف مسيرة تقديم النموذج الأحسن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها".
سلطان العرب
ليست هناك تعليقات: